فصل: سئل: عما إذا قرأ القرآن ويعد في الصلاة بسبحة هل تبطل صلاته أم لا‏؟‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/  وسئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله عن رجل لا يطمئن في صلاته‏؟‏

فأجاب‏:‏

الطمأنينة في الصلاة واجبة، وتاركها مسيء باتفاق الأئمة، بل جمهور أئمة الإسلام؛ كمالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي يوسف صاحب أبي حنيفة، وأبو حنيفة، ومحمد، لا يخالفون في أن تارك ذلك مسيء غير محسن، بل هو آثم عاص، تارك للواجب‏.‏

وغيرهم يوجبون الإعادة على من ترك الطمأنينة‏.‏ ودليل وجوب الإعادة ما في الصحيحين‏:‏ أن رجلاً صلى في المسجد ركعتين، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ارجع فصل، فإنك لم تصل‏)‏، مرتين أو ثلاثًا ـ فقال‏:‏ والذي بعثك بالحق، ما أحسن غير هذا‏.‏ فعلمني ما يجزئني في صلاتي، فقال‏:‏ ‏(‏إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم اجلس حتى تطمئن جالسًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها‏)‏‏.‏ فهذا كان رجلاً جاهلاً، ومع هذا فأمره النبي/ صلى الله عليه وسلم أن يعيد الصلاة، وأخبره أنه لم يصل، فتبين بذلك أن من ترك الطمأنينة فقد أخبر الله ورسوله أنه لم يصل، فقد أمره الله ورسوله بالإعادة‏.‏ ومن يعص الله ورسوله فله عذاب أليم‏.‏

وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يقبل الله صلاة رجل لا يقيم صُلْبَه في الركوع والسجود‏)‏ يعني يقيم صلبه إذا رفع من الركوع وإذا رفع من السجود‏.‏ وفي الصحيح أن حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ رأى رجلاً لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، فقال‏:‏ منذ كم تصلي هذه الصلاة‏؟‏ قال‏:‏ منذ كذا وكذا، فقال‏:‏ أما إنك لو مت لمت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدًا صلى الله عليه وسلم‏)‏‏.‏

وقد روى هذا المعنى ابن خزيمة في صحيحه مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه قال لمن نقر في الصلاة‏:‏ ‏(‏أما إنك لو مت على هذا مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدًا صلى الله عليه وسلم‏)‏ أو نحو هذا‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏مثل الذي يصلي ولا يتم ركوعه وسجوده، مثل الذي يأكل لقمة أو لقمتين، فما تغني عنه‏)‏‏.‏

وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني/ شيطان قام فنقر أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلاً‏)‏‏.‏ وقد كتبنا في ذلك من دلائل الكتاب والسنة في غير هذا الموضع، ما يطول ذكره هنا والله أعلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله عمن يحصل له الحضور في الصلاة تارة، ويحصل له الوسواس تارة، فما الذي يستعين به على دوام الحضور في الصلاة‏؟‏ وهل تكون تلك الوساوس مبطلة للصلاة‏؟‏ أو منقصة لها أم لا‏؟‏ وفي قول عمر‏:‏ إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة‏.‏ هل كان ذلك يشغله عن حاله في جمعيته أو لا‏؟‏‏.‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله رب العالمين، الوسواس لا يبطل الصلاة إذا كان قليلاً باتفاق أهل العلم، بل ينقص الأجر، كما قال ابن عباس‏:‏ ليس لك من صلاتك إلا ما عَقِلْتَ منها‏.‏

وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن العبد لينصرف من صلاته، ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها، إلا سبعها، إلا ثمنها، إلا تسعها، إلا عشرها‏)‏‏.‏

/ويقال‏:‏ إن النوافل شرعت لجبر النقص الحاصل في الفرائض، كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏أول ما يحاسب عليه العبد من عمله الصلاة، فإن أكملها، وإلا قيل‏:‏ انظروا هل له من تطوع، فإن كان له تطوع أكملت به الفريضة، ثم يصنع بسائر أعماله‏)‏‏.‏ وهذا الإكمال يتناول ما نقص مطلقًا‏.‏

وأما الوسواس الذي يكون غالبًا على الصلاة فقد قال طائفة ـ منهم أبو عبد الله بن حامد، وأبو حامد الغزالي وغيرهما ـ‏:‏ إنه يوجب الإعادة أيضًا، لما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان، وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي التأذين أقبل، فإذا ثوِّب بالصلاة أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه، فيقول‏:‏ اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى، فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين قبل أن يسلم‏)‏‏.‏ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الصلاة مع الوسواس مطلقًا‏)‏‏.‏ ولم يفرق بين القليل والكثير‏.‏

ولا ريب أن الوسواس كلما قل في الصلاة كان أكمل، كما في الصحيحين من حديث عثمان ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لم يحدث/فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه‏)‏‏.‏ وكذلك في الصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏من توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلى ركعتين يقبل عليهما بوجهه، وقلبه غفر له ما تقدم من ذنبه‏)‏‏.‏

وما زال في المصلين من هو كذلك، كما قال سعد بن معاذ ـ رضي الله عنه ـ‏:‏ في ثلاث خصال، لو كنت في سائر أحوالي أكون فيهن كنت أنا أنا؛ إذا كنت في الصلاة لا أحدث نفسي بغير ما أنا فيه؛ وإذا سمعت من رسول صلى الله عليه وسلم حديثًا لا يقع في قلبي ريب أنه الحق، وإذا كنت في جنازة لم أحدث نفسي بغير ما تقول، ويقال لها‏.‏ وكان مسلمة بن بشار يصلي في المسجد، فانهدم طائفة منه وقام الناس، وهو في الصلاة لم يشعر‏.‏ وكان عبد الله بن الزبير ـ رضي الله عنه ـ يسجد، فأتى المنجنيق فأخذ طائفة من ثوبه وهو في الصلاة لا يرفع رأسه‏.‏ وقالوا لعامر بن عبد القيس‏:‏ أتحدث نفسك بشيء في الصلاة فقال‏:‏ أو شيء أحب إلي من الصلاة أحدث به نفسي‏؟‏ قالوا‏:‏ إنا لنحدث أنفسنا في الصلاة، فقال‏:‏ أبالجنة والحور ونحو ذلك‏؟‏ فقالوا‏:‏ لا، ولكن بأهلينا وأموالنا، فقال‏:‏ لأن تختلف الأسنة في أحب إلي‏.‏ وأمثال هذا متعدد‏.‏

والذي يعين على ذلك شيئان‏:‏ قوة المقتضي، وضعف الشاغل‏.‏

أما الأول‏:‏ فاجتهاد العبد في أن يعقل ما يقوله ويفعله، ويتدبر/القراءة والذكر والدعاء، ويستحضر أنه مناج لله تعالى، كأنه يراه، فإن المصلي إذا كان قائمًا فإنما يناجي ربه‏.‏ والإحسان‏:‏ أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ثم كلما ذاق العبد حلاوة الصلاة كان انجذابه إليها أوكد، وهذا يكون بحسب قوة الإيمان‏.‏ والأسباب المقوية للإيمان كثيرة؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏حبب إلى من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة‏)‏‏.‏ وفي حديث آخر أنه قال‏:‏ ‏(‏أرحنا يابلال بالصلاة‏)‏‏.‏ ولم يقل‏:‏ أرحنا منها‏.‏ وفي أثر آخر‏:‏ ‏(‏ليس بمستكمل للإيمان من لم يزل مهمومًا حتى يقوم إلى الصلاة‏)‏، أو كلام يقارب هذا‏.‏ وهذا باب واسع‏.‏

فإن ما في القلب من معرفة الله ومحبته وخشيته، وإخلاص الدين له، وخوفه ورجائه، والتصديق بأخباره، وغير ذلك، مما يتباين الناس فيه، ويتفاضلون تفاضلاً عظيمًا، ويقوي ذلك كلما ازداد العبد تدبرًا للقرآن، وفهمًا، ومعرفة بأسماء الله وصفاته وعظمته، وتفقره إليه في عبادته واشتغاله به، بحيث يجد اضطراره إلى أن يكون ـ تعالى ـ معبوده ومستغاثه أعظم من اضطراره إلى الأكل والشرب، فإنه لا صلاح له إلا بأن يكون الله هو معبوده الذي يطمئن إليه، ويأنس به، ويلتذ بذكره، ويستريح به، ولا حصول لهذا إلا بإعانة الله، ومتى كان/للقلب إله غير الله فسد وهلك هلاكًا لا صلاح معه، ومتي لم يعنه الله على ذلك لم يصلحه، ولا حول ولا قوة إلا به، ولا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه‏.‏

ولهذا يروى أن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب، جمع علمها في الكتب الأربعة، وجمع الكتب الأربعة في القرآن، وجمع علم القرآن في المفصل، وجمع علم المفصل في فاتحة الكتاب، وجمع علم فاتحة الكتاب في قوله‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏‏.‏ ونظير ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 30‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏2، 3‏]‏، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 65‏]‏، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله‏)‏‏.‏ وبسط هذا طويل لا يحتمله هذا الموضع‏.‏

وأما زوال العارض، فهو الاجتهاد في دفع ما يشغل القلب من تفكر الإنسان فيما لا يعنيه، وتدبر الجواذب التي تجذب القلب عن مقصود الصلاة، وهذا في كل عبد بحسبه، فإن كثرة الوسواس بحسب كثرة الشبهات والشهوات، وتعليق القلب بالمحبوبات التي ينصرف القلب إلى طلبها، والمكروهات التي ينصرف القلب إلى دفعها‏.‏

/والوساوس إما من قبيل الحب، من أن يخطر بالقلب ما قد كان أو من قبيل الطلب، وهو أن يخطر في القلب ما يريد أن يفعله‏.‏ ومن الوساوس ما يكون من خواطر الكفر والنفاق، فيتألم لها قلب المؤمن تألمًا شديدًا، كما قال الصحابة‏:‏ يارسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يخـر من السـماء أحب إليه من أن يتكلـم به، فقال‏:‏ ‏(‏أوجـدتموه‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ذلك صريح الإيمان‏)‏‏.‏ وفي لفظ‏:‏ إن أحدنا ليجد في نفسه ما يتعاظم أن يتكلم به، فقال‏:‏ ‏(‏الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة‏)‏‏.‏

قال كثير من العلماء‏:‏ فكراهة ذلك وبغضه، وفرار القلب منه، هو صريح الإيمان، والحمد لله الذي كان غاية كيد الشيطان الوسوسة، فإن شيطان الجن إذا غلب وسوس، وشيطان الإنس إذا غلب كذب، والوسواس يعرض لكل من توجه إلى اللهتعالى بذكر أو غيره، لابد له من ذلك، فينبغي للعبد أن يثبت ويصبر، ويلازم ما هو فيه من الذكر والصلاة، ولا يضجر، فإنه بملازمة ذلك ينصرف عنه كيد الشيطان، ‏{‏إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 76‏]‏، وكلما أراد العبد توجهًا إلى الله تعالى ـ بقلبه جاء من الوسواس أمور أخرى، فإن الشيطان بمنزلة قاطع الطريق، كلما أراد العبد يسير إلى الله تعالى ـ أراد قطع الطريق عليه؛ ولهذا قيل لبعض السلف‏:‏ إن اليهود والنصارى يقولون‏:‏ لا/ نوسوس، فقال‏:‏ صدقوا، وما يصنع الشيطان بالبيت الخراب‏.‏ وتفاصيل ما يعرض للسالكين طويل موضعه‏.‏

وأما ما يروى عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ من قوله‏:‏ إني لأجهز جيشي، وأنا في الصلاة‏.‏ فذاك لأن عمر كان مأمورًا بالجهاد، وهو أمير المؤمنين فهو أمير الجهاد‏.‏ فصار بذلك من بعض الوجوه بمنزلة المصلي الذي يصلي صلاة الخوف حال معاينة العدو، إما حال القتال، وإما غير حال القتال، فهو مأمور بالصلاة، ومأمور بالجهاد فعليه أن يؤدي الواجبين بحسب الإمكان، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 54‏]‏‏.‏ ومعلوم أن طمأنينة القلب حال الجهاد لا تكون كطمأنينته حال الأمن، فإذا قدر أنه نقص من الصلاة شيء لأجل الجهاد لم يقدح هذا في كمال إيمان العبد وطاعته؛ ولهذا تخفف صلاة الخوف عن صلاة الأمن‏.‏ ولما ذكر ـ سبحانه وتعالى ـ صلاة الخوف قال‏:‏ ‏{‏فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 103‏]‏، فالإقامة المأمور بها حال الطمأنينة لا يؤمر بها حال الخوف‏.‏

ومع هذا، فالناس متفاوتون في ذلك، فإذا قوي إيمان العبد كان حاضر القلب في الصلاة، مع تدبره للأمور بها، وعمر قد/ ضرب الله الحق على لسانه وقلبه، وهو المحدث الملهم، فلا ينكر لمثله أن يكون له مع تدبيره جيشه في الصلاة من الحضور ما ليس لغيره، لكن لا ريب أن حضوره مع عدم ذلك يكون أقوى، ولا ريب أن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حال أمنه كانت أكمل من صلاته حال الخوف في الأفعال الظاهرة، فإذا كان الله قد عفا حال الخوف عن بعض الواجبات الظاهرة، فكيف بالباطنة‏.‏

وبالجملة، فتفكر المصلي في الصلاة في أمر يجب عليه قد يضيق وقته ليس كتفكره فيما ليس بواجب، أو فيما لم يضق وقته، وقد يكون عمر لم يمكنه التفكر في تدبير الجيش إلا في تلك الحال، وهو إمام الأمة والواردات عليه كثيرة‏.‏ ومثل هذا يعرض لكل أحد بحسب مرتبته، والإنسان دائمًا يذكر في الصلاة مالا يذكره خارج الصلاة، ومن ذلك ما يكون من الشيطان، كما يذكر أن بعض السلف ذكر له رجل أنه دفن مالا وقد نسي موضعه، فقال‏:‏ قم فصل، فقام فصلى، فذكره، فقيل له‏:‏ من أين علمت ذلك‏؟‏ قال‏:‏ علمت أن الشيطان لا يدعه في الصلاة حتى يذكره بما يشغله، ولا أهم عنده من ذكر موضع الدفن‏.‏ لكن العبد الكيس يجتهد في كمال الحضور، مع كمال فعل بقية المأمور، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

/ وسئل عن وسواس الرجل في صلاته، وما حد المبطل للصلاة‏؟‏ وما حد المكروه منه‏؟‏ وهل يباح منه شيء في الصلاة‏؟‏ وهل يعذب الرجل في شيء منه‏؟‏ وما حد الإخلاص في الصلاة‏؟‏ وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس لأحدكم من صلاته إلا ما عقل منها‏)‏‏؟‏‏.‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، الوسواس نوعان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يمنع ما يؤمر به من تدبر الكلم الطيب، والعمل الصالح الذي في الصلاة، بل يكون بمنزلة الخواطر، فهذا لا يبطل الصلاة؛ لكن من سلمت صلاته منه فهو أفضل ممن لم تسلم منه صلاته الأول شبه حال المقربين، والثاني شبه حال المقتصدين‏.‏

وأما الثاني‏:‏ فهو ما منع الفهم وشهود القلب، بحيث يصير الرجل غافلاً، فهذا لا ريب أنه يمنع الثواب، كما روى أبو داود في سننه عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الرجل لينصرف من صلاته، ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها،/إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها‏)‏، حتى قال‏:‏‏(‏إلا عشرها‏)‏، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه قد لا يكتب له منها إلا العشر‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها، ولكن هل يبطل الصلاة ويوجب الإعادة‏؟‏ فيه تفصيل‏.‏ فإنه إن كانت الغفلة في الصلاة أقل من الحضور، والغالب الحضور، لم تجب الإعادة، وإن كان الثواب ناقصًا، فإن النصوص قد تواترت بأن السهو لا يبطل الصلاة، وإنما يجبر بعضه بسجدتي السهو، وأما إن غلبت الغفلة على الحضور، ففيه للعلماء قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا تصح الصلاة في الباطن، وإن صحت في الظاهر، كحقن الدم؛ لأن مقصود الصلاة لم يحصل، فهو شبيه صلاة المرائي، فإنه بالاتفاق لا يبرأ بها في الباطن، وهذا قول أبي عبد الله بن حامد وأبي حامد الغزالي وغيرهما‏.‏

والثاني‏:‏ تبرأ الذمة، فلا تجب عليه الإعادة، وإن كان لا أجر له فيها، ولا ثواب، بمنزلة صوم الذي لم يدع قول الزور والعمل به، فليس له من صيامه إلا الجوع والعطش‏.‏ وهذا هو المأثور عن الإمام أحمد، وغيره من الأئمة، واستدلوا بما في الصحيحين عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا أذن المؤذن/ بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط، حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي التأذين أقبل، فإذا ثوُبِّ بالصلاة أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول‏:‏ اذكر كذا، اذكر كذا، ما لم يكن يذكر، حتى يظل لا يدري كم صلى، فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين‏)‏‏.‏ فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشيطان يذكره بأمور حتى لا يدري كم صلى، وأمره بسجدتين للسهو، ولم يأمره بالإعادة، ولم يفرق بين القليل والكثير‏.‏

وهذا القول أشبه وأعدل؛ فإن النصوص والآثار إنما دلت على أن الأجر والثواب مشروط بالحضور، لا تدل على وجوب الإعادة، لا باطنًا ولا ظاهرًا، والله أعلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله عما إذا أحدث المصلي قبل السلام‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا أحدث المصلي قبل السلام بَطَلَت، مكتوبة كانت أو غير مكتوبة‏.‏

/ وسئل عن رجل ضحك في الصلاة، فهل تبطل صلاته أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

أما التبسم فلا يبطل الصلاة، وأما إذا قهقه في الصلاة فإنها تبطل، ولا ينتقض وضوؤه عند الجمهور كمالك والشافعي وأحمد؛ لكن يستحب له أن يتوضأ في أقوى الوجهين، لكونه أذنب ذنبًا، وللخروج من الخلاف، فإن مذهب أبي حنيفة ينتقض وضوؤه، والله أعلم‏.‏

/ وسئل ـ رحمه الله عن النحنحة، والسعال، والنفخ، والأنين، وما أشبه ذلك في الصلاة‏:‏ فهل تبطل بذلك أم لا‏؟‏ وأي شيء الذي تبطل الصلاة به من هذا أو غيره‏؟‏ وفي أي مذهب‏؟‏ وإيش الدليل على ذلك‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله رب العالمين، الأصل في هذا الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏إن الله يحدث من أمره ما يشاء، ومما أحدث ألا تكلموا في الصلاة‏)‏ قال زيد بن أرقم‏:‏ فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام‏.‏ وهذا مما اتفق عليه المسلمون‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ وأجمع أهل العلم على أن من تكلم في صلاته عامدًا وهو لا يريد إصلاح شيء من أمرها أن صلاته فاسدة، والعامد من يعلم أنه في صلاة، وأن الكلام محرم‏.‏

قلت‏:‏ وقد تنازع العلماء في الناسي والجاهل والمكره والمتكلم لمصلحة الصلاة، وفي ذلك كله نزاع في مذهب أحمد وغيره من العلماء‏.‏/ إذا عرف ذلك فاللفظ على ثلاث درجات‏:‏

أحدها‏:‏ أن يدل على معنى بالوضع إما بنفسه، وإما مع لفظ غيره، كفى، وعن، فهذا الكلام مثل‏:‏ يد، ودم، وفم، وخذ‏.‏

الثاني‏:‏ أن يدل على معنى بالطبع كالتأوه، والأنين، والبكاء، ونحو ذلك‏.‏

الثالث‏:‏ ألا يدل على معنى لا بالطبع ولا بالوضع، كالنحنحة‏.‏ فهذا القسم كان أحمد يفعله في صلاته، وذكر أصحابه عنه روايتين في بطلان الصلاة بالنحنحة‏.‏ فإن قلنا‏:‏ تبطل، ففعل ذلك لضرورة فوجهان‏.‏ فصارت الأقوال فيها ثلاثة‏:‏

أحدها‏:‏ أنها لا تبطل بحال، وهو قول أبي يوسف، وإحدى الروايتين عن مالك؛ بل ظاهر مذهبه‏.‏

والثاني‏:‏ تبطل بكل حال، وهو قول الشافعي وأحد القولين في مذهب أحمد ومالك‏.‏

والثالث‏:‏ إن فعله لعذر لم تبطل وإلا بَطَلَت، وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وغيرهما، وقالوا‏:‏ إن فعله لتحسين الصوت وإصلاحه،/ لم تبطل، قالوا‏:‏ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك كثيرًا فرخص فيه للحاجة‏.‏ ومن أبطلها قال‏:‏ إنه يتضمن حرفين، وليس من جنس أذكار الصلاة، فأشبه القهقهة، والقول الأول أصح، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما حرم التكلم في الصلاة، وقال‏:‏ ‏(‏إنه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين‏)‏، وأمثال ذلك من الألفاظ التي تتناول الكلام‏.‏ والنحنحة لا تدخل في مسمي الكلام أصلاً، فإنها لا تدل بنفسها، ولا مع غيرها من الألفاظ على معنى، ولا يسمى فاعلها متكلمًا، وإنما يفهم مراده بقرينة، فصارت كالإشارة‏.‏

وأما القهقهة ونحوها ففيها جوابان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن تدل على معنى بالطبع‏.‏

والثاني‏:‏ أنا لا نسلم أن تلك أبطلت لأجل كونها كلامًا‏.‏ يدل على ذلك أن القهقهة تبطل بالإجماع، ذكره ابن المنذر‏.‏

وهذه الأنواع فيها نزاع، بل قد يقال‏:‏ إن القهقهة فيها أصوات عالية تنافي حال الصلاة، وتنافي الخشوع الواجب في الصلاة، فهي كالصوت العالي الممتد، الذي لا حرف معه‏.‏ وأيضًا، فإن فيها من الاستخفاف بالصلاة والتلاعب بها مـا يناقض مقصودها، فأبطلت لذلك/لا لكونه متكلمًا‏.‏ وبطلانها بمثل ذلك لا يحتاج إلى كونه كلامًا، وليس مجرد الصوت كلامًا، وقد روي عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏ كان لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدخلان بالليل والنهار، وكنت إذا دخلت عليه وهو يصلي يتنحنح لي رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، والنسائي بمعناه‏.‏

وأما النوع الثاني وهو ما يدل على المعنى طبعًا لا وضعًا فمنه النفخ، وفيه عن مالك وأحمد روايتان أيضًا‏:‏

إحداهما‏:‏ لا تبطل، وهو قول إبراهيم النخعي، وابن سيرين، وغيرهما من السلف، وقول أبي يوسف وإسحاق‏.‏

والثانية‏:‏ أنها تبطل، وهو قول أبي حنيفة، ومحمد، والثوري والشافعي، وعلى هذا فالمبطل فيه ما أبان حرفين‏.‏

وقد قيل عن أحمد‏:‏ إن حكمه حكم الكلام، وإن لم يبن حرفين‏.‏

واحتجوا لهذا القول بما روي عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من نفخ في الصلاة فقد تكلم‏)‏ رواه الخلال؛ لكن مثل هذا الحديث لا يصح مرفوعًا، فلا يعتمد عليه، لكن حكى أحمد هذا اللفظ عن ابن عباس، وفي لفظ عنه‏:‏ النفخ في الصلاة كلام‏.‏ رواه سعيد في سننه‏.‏

قالوا‏:‏ ولأنه تضمن حرفين، وليس هذا من جنس أذكار/الصلاة، فأشبه القهقهة، والحجة مع القول، كما في النحنحة، والنزاع، كالنزاع، فإن هذا لا يسمي كلامًا في اللغة التي خاطبنـا بهـا النبي صلى الله عليه وسلم، فـلا يتناوله عموم النهي عن الكلام في الصلاة، ولو حلف لا يتكلم لم يحنث بهذه الأمور، ولو حلف ليتكلمن لم يبر بمثل هذه الأمور، والكلام لابد فيه من لفظ دال على المعنى، دلالة وضعية، تعرف بالعقل، فأما مجرد الأصوات الدالة على أحوال المصوتين، فهو دلالة طبعية حسية، فهو وإن شارك الكلام المطلق في الدلالة فليس كل ما دل منهيا عنه في الصلاة، كالإشارة فإنها تدل وتقوم مقام العبارة، بل تدل بقصد المشير، وهي تسمى كلامًا، ومع هذا لا تبطل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلموا عليه رد عليهم بالإشارة، فعلم أنه لم ينه عن كل ما يدل ويفهم، وكذلك إذا قصد التنبيه بالقرآن والتسبيح جاز، كما دلت عليه النصوص‏.‏

ومع هذا، فلما كان مشروعًا في الصلاة لم يبطل، فإذا كان قد قصد إفهام المستمع ومع هذا لم تبطل، فكيف بما دل بالطبع، وهو لم يقصد به إفهام أحد، ولكن المستمع يعلم منه حاله، كما يعلم ذلك من حركته، ومن سكوته، فإذا رآه يرتعش أو يضطرب أو يدمع أو يبتسم علم حاله، وإنما امتاز هذا بأنه من نوع الصوت، هذا لو لم يرد به سنة، فكيف وفي المسند عن المغيرة بن شعبة، أن النبي/ صلى الله عليه وسلم كان في صلاة الكسوف، فجعل ينفخ، فلما انصرف قـال‏:‏ إن النار أدنيت مني حتى نفخت حـرها عـن وجهي‏)‏‏.‏ وفي المسـند وسـنن أبي داود عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة كسوف الشمس نفخ في آخر سجوده، فقال‏:‏ ‏(‏أف أف أف، رب‏!‏ ألم تعدني ألا تعذبهم وأنا فيهم‏؟‏‏!‏‏)‏‏.‏ وقد أجاب بعض أصحابنا عن هذا بأنه محمول على أنه فعله قبل تحريم الكلام، أو فعله خوفًا من الله، أو من النار‏.‏ قالوا‏:‏ فإن ذلك لا يبطل عندنا، نص عليه أحمد‏.‏ كالتأوه والأنين عنده، والجوابان ضعيفان‏:‏

أما الأول‏:‏ فإن صلاة الكسوف كانت في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم يوم مات ابنه إبراهيم، وإبراهيم كان من مارية القبطية، ومارية أهداها له المقوقس، بعد أن أرسل إليه المغيرة، وذلك بعد صلح الحديبية، فإنه بعد الحديبية أرسل رسله إلى الملوك، ومعلوم أن الكلام حرم قبل هذا باتفاق المسلمين، لاسيما وقد أنكر جمهور العلماء على من زعم أن قصة ذي اليدين كانت قبل تحريم الكلام؛ لأن أبا هريرة شهدها، فكيف يجوز أن يقال بمثل هذا في صلاة الكسوف، بل قد قيل‏:‏ الشمس كسفت بعد حجة الوداع، قبل موته بقليل‏.‏

وأما كونه من الخشية، ففيه أنه نفخ حرها عن وجهه، وهذا نفخ لدفع ما يؤذي من خارج، كما ينفخ الإنسان في المصباح ليطفئه،/ أو ينفخ في التراب‏.‏ ونفخ الخشية من نوع البكاء والأنين، وليس هذا ذاك‏.‏

وأما السعال والعطاس والتثاؤب والبكاء ـ الذي يمكن دفعه ـ والتأوه والأنين، فهذه الأشياء هي كالنفخ‏.‏ فإنها تدل على المعنى طبعًا، وهي أولى بألا تبطل، فإن النفخ أشبه بالكلام من هذه، إذ النفخ يشبه التأفيف كما قال‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏، لكن الذين ذكروا هذه الأمور من أصحاب أحمد كأبي الخطاب ومتبعيه، ذكروا أنها تبطل، إذ أبان حرفين، ولم يذكروا خلافًا‏.‏

ثم منهم من ذكر نصه في النحنحة، ومنهم من ذكر الرواية الأخري عنه في النفخ، فصار ذلك موهمًا أن النزاع في ذلك فقط، وليس كذلك، بل لا يجوز أن يقال‏:‏ إن هذه تبطل، والنفخ لا يبطل‏.‏ وأبو يوسف يقول في التأوه والأنين لا يبطل مطلقًا على أصله، وهو أصح الأقوال في هذه المسألة‏.‏

ومالك مع الاختلاف عنه في النحنحة والنفخ قال‏:‏ الأنين لا يقطع صلاة المريض، وأكرهه للصحيح‏.‏ ولا ريب أن الأنين من غير حاجة مكروه، ولكنه لم يره مبطلاً‏.‏

/وأما الشافعي، فجرى على أصله الذي وافقه عليه كثير من متأخري أصحاب أحمد، وهو أن ما أبان حرفين من هذه الأصوات كان كلامًا مبطلاً، وهو أشد الأقوال في هذه المسألة، وأبعدها عن الحجة، فإن الإبطال إن أثبتوه بدخولها في مسمى الكلام في لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن المعلوم الضروري أن هذه لا تدخل في مسمى الكلام، وإن كان بالقياس لم يصح ذلك، فإن في الكلام يقصد المتكلم معاني يعبر عنها بلفظه، وذلك يشغل المصلي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن في الصلاة لشغلاً‏)‏ وأما هذه الأصوات فهي طبيعية كالتنفس ومعلوم أنه لو زاد في التنفس على قدر الحاجة لم تبطل صلاته، وإنما تفارق التنفس بأن فيها صوتًا، وإبطال الصلاة بمجرد الصوت إثبات حكم بلا أصل، ولا نظير‏.‏

وأيضًا، فقد جاءت أحاديث بالنحنحة والنفخ، كما تقدم، وأيضًا فالصلاة صحيحة بيقين، فلا يجوز إبطالها بالشك، ونحن لا نعلم أن العلة في تحريم الكلام، هو ما يدعى من القدر المشترك، بل هذا إثبات حكم بالشك الذي لا دليل معه، وهذا النزاع إذا فعل ذلك لغـير خشـية الله، فـإن فعـل ذلك لخشـية الله فمـذهب أحمـد وأبي حنيفـة أن صـلاته لا تبطل، ومذهب الشافعي أنها تبطل؛ لأنه كلام، والأول أصح، فإن هذا إذا كان من خشية الله كان من جنس ذكر الله ودعائه، فإنه كلام/ يقتضي الرهبة من الله والرغبة إليه، وهذا خوف الله في الصلاة، وقد مدح الله إبراهيم بأنه أوَّاه، وقد فسر بالذي يتأوه من خشية الله‏.‏ ولو صرح بمعنى ذلك بأن استجار من النار أو سأل الجنة لم تبطل صلاته، بخلاف الأنين والتأوه في المرض والمصيبة، فإنه لو صرح بمعناه كان كلامًا مبطلاً‏.‏

وفي الصحيحين أن عائشة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قرأ غلبه البكاء، قال‏:‏ ‏(‏مروه فليصل، إنكن لأنتن صواحب يُوُسف‏)‏ وكان عمر يسمع ـ نشيجه من وراء الصفوف لما قرأ‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 86‏]‏‏.‏ والنشيج‏:‏ رفع الصوت بالبكاء، كما فسره أبو عبيد‏.‏ وهذا محفوظ عن عمر، ذكره مالك وأحمد، وغيرهما، وهذا النزاع فيما إذا لم يكن مغلوبًا‏.‏

فأما ما يغلب عليه المصلي من عطاس وبكاء وتثاؤب، فالصحيح عند الجمهور أنه لايبطل، وهو منصوص أحمد وغيره، وقد قال بعض أصحابه‏:‏ إنه يبطل، وإن كان معذورًا، كالناسي‏.‏ وكلام الناسي فيه روايتان عن أحمد‏:‏

أحدهما‏:‏ وهو مذهب أبي حنيفة أنه يبطل‏.‏

/والثاني‏:‏ وهو مذهب مالك والشافعي أنه لا يبطل، وهذا أظهر، وهذا أولى من الناسي، لأن هذه أمور معتادة لا يمكنه دفعها، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏التثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع‏)‏‏.‏

وأيضًا، فقد ثبت حديث الذي عطس في الصلاة وشمته معاوية بن الحكم السلمي، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم معاوية عن الكلام في الصلاة؛ ولم يقل للعاطس شيئًا‏.‏ والقول بأن العطاس يبطل تكليف من الأقوال المحدثة التي لا أصل لها عن السلف ـ رضي الله عنهم‏.‏

وقد تبين أن هذه الأصوات الحلقية التي لا تدل بالوضع، فيها نزاع في مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد، وأن الأظهر فيها جميعًا أنها لا تبطل‏.‏ فإن الأصوات من جنس الحركات، وكما أن العمل اليسير لا يبطل، فالصوت اليسير لا يبطل، بخلاف صوت القهقهة، فإنه بمنزلة العمل اليسير، وذلك ينافي الصلاة، بل القهقهة تنافي مقصود الصلاة أكثر؛ ولهذا لا تجوز فيها بحال، بخلاف العمل الكثير، فإنه يرخص فيه للضرورة، والله أعلم‏.‏

/ وسئل عما إذا قرأ القرآن، ويعد في الصلاة بسبحة، هل تبطل صلاته أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

إن كان المراد بهذا السؤال أن يعد الآيات، أو يعد تكرار السورة الواحدة، مثل قوله‏:‏‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 1‏]‏ بالسبحة فهذا لا بأس به، وإن أريد بالسؤال شيء آخر، فليبينه، والله أعلم‏.‏

 وسئل‏:‏هل للإنسان إذا دخل المسجد والناس في الصلاة أن يجهر بالسلام أولاً‏؟‏ خشية أن يرد عليه من هو جاهل بالسلام‏.‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، إن كان المصلي يحسن الرد بالإشارة، فإذا سلم عليه فلا بأس، كما كان الصحابة يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يرد عليهم بالإشارة، وإن لم يحسن الرد بل قد يتكلم فلا ينبغي إدخاله فيما يقطع صلاته، أو يترك به الرد الواجب عليه، والله أعلم‏.‏

/ وسئل عن المرور بين يدي المأموم‏:‏ هل هو في النهي كغيره مثل الإمام والمنفرد أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

المنهي عنه إنما هو بين يدي الإمام والمنفرد، واستدلوا بحديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ والله أعلم‏.‏